منذ العام 1800 ومتوسط العمر المتوقع في حالة ازدياد تقدّر بثلاثة أشهر لكل عام. أي بمجموع سنتين زيادة في متوسط عمر الإنسان مع مرور كل عقد من الزمن. هذا يعني أنّ الطفل الذي ولد في العام 2005 وما بعده، سيتعرّض إلى تغييرات بنسبة 50% في مستوى عمره ليعيش حتى يصبح عمره 104 أعوام. لذلك، يجب علينا التخلّي عن النمط القديم الذي يقسم حياتنا إلى ثلاث مراحل منفصلة. المرحلة الأولى: هي مرحلة الدراسة (حتى نبلغ من العمر ما بين أوائل العشرينيات ومنتصفها)، المرحلة الثانية: هي ما بين 30 إلى 40 عاماً كحد أقصى من الحياة المهنية النشطة، ثم مرحلة التقاعد. يجب علينا أن نتبنى عقلية التعلم مدى الحياة.
كيف نفعل ذلك؟
سيعطيك هذا المقال ثلاث أفكار عملية.
ترتسم ابتسامة على وجهي كلما نظرت إلى شهادتي الجامعية المعلقة على الجدار، لأن كل شيء تعلمته لم يعد يتلاءم مع التطورات الحالية. هل يعني هذا أننا يجب أن نتوقف عن هدر كل تلك الطاقة والوقت والمال في الجامعة؟ ليس بالفعل: بل يعني هذا، أنه ما أن ننتهي من “مراحل الدراسات الرسمية”، حتى يجب أن نتحول إلى آلات تعلَمية. سأعيد صياغة ما قلته: يجب أن نصبح آلات تتلقى التعلم بشكل مستمر. لا نمتلك خياراً آخر، وإلا سوف نصبح خارج لعبة النجاح والتطور، وسنترك في الخلف وكأننا رجال كهوف بعد انتهاء العصر الحجري.
لطالما بدأت المقابلات مع المتقدمين للعمل، خلال فترة 25 سنة كمدير تنفيذي للموارد البشرية، من خلال طرح السؤال التالي: “ما الذي تعلمته في آخر 6 سنوات؟”. لم يتمكن العديد من المرشحين من الإجابة، فهم غير مستعدين لهذا النوع من الأسئلة: وهنا كانت تنتهي المقابلة.
أتعتبر حصولك على شهادة البكالوريوس أو الماجستير كنقطة الوصول، أو بداية الرحلة؟ إذا كنت تعتبر الأمر بمثابة نقطة الوصول، فأنت تخدع نفسك. يعتمد نجاحنا طويل الأمد وتحقيقنا للإنجازات على تثقيف عقولنا بشكل مستمر. لا تفكر في قدراتك على أنها شيء غير قابل للتغيير، بل تيقّن أنها شيء يمكنك تطويره بمرور الوقت.
إنني مقتنع بأنه يجب أن نمتلك مرونة في عملية التعلم. وأعني بذلك القدرة على البقاء منفتحين على طرق تفكير جديدة، وأيضاً على التعلم بشكل مستمر بطريقة مبتكرة، والتفكير بتمعّن، والتوغل في مجالات تعلّمية مجهولة بالنسبة لنا، والتخلي عن الرضا بوضعنا الحالي وعن سباتنا. يوجد شخص ما، في مكان ما يقوم بالتعلم أسرع منك. يجب ألا ننسى ثلاث قواعد مهمة حتى نصبح آلات للتعلم المستمر:
القاعدة الأولى: لا تكن كثير التعمق بالتخصصات
فلنبدأ بهذا السؤال: ما الكلمة التي تتبادر إلى ذهنك إذا فكرت في ليوناردو دا فينشي؟ رسّام؟ عالم؟ كاتب؟ مخترع؟ مهندس معماري؟ كان دا فينشي يجمع كل هذه المواصفات، فهو رجل تجول في “عصر النهضة” بين التخصصات، متجنباً التخصص المفرط الذي يحد من قدرتنا على التفكير والفهم من حيث المنظومات.
إذاً، لا تعني القاعدة الأولى أن نوجه تعلمنا نحو مادة واحدة فقط. قام ستيف جوبز ذات مرة بشرح سبب كون التصميم الخارجي لمنتجات آبل عصرياً وجذاباً ومصمماً بشكل مثالي: كان جوبز قد سجّل في دورة تُعلم فن الخط عندما كان تلميذاً، وأراد أن ينقل هذا التصميم الجمالي إلى منتجات شركته. أصبحت اليوم تصاميم منتجات آبل تصاميم أيقونية.
يقول ليوناردو دا فينشي صاحب المعرفة الواسعة ذات مرة: “التعلم لا يستنزف العقل أبداً”. على الرغم من أنّ قلّة منا يمكنهم أن يطمحوا إلى تحقيق مثل إنجازاته المبهرة، ولكن، يمكننا جميعاً تبنّي رغبته القوية في التعلم. لا يحدث التعلم فقط في الجامعة أو في مدرسة ليلية أو في دورة مهنية تجري في مكان عملك. يمكن لما نقوم به في وقت فراغنا أن يوفر لنا دروساً لتنشيط حياتنا العملية.
هل قمت بتدريب فريق رياضي للهواة؟ إذاً، بدأت تتعلم كيف تقوم بإدارة فريق. هل قمت بتدريس دروس خصوصية للتلاميذ؟ لقد تعلمت كيف تحفّز الناس. هل قمت ببيع شيء ما، سواء من خلال عرض قطعة أثاث على موقع إيباي أو من خلال العمل بدوام جزئي مقابل المال؟ لقد فهمت نفسية المشترين. هل توليت دوراً استشارياً في السياسات المحلية، أو تطوعت في حملة تؤمن بها؟ إذاً، لقد فهمت تعقيدات وديناميكيات المجموعة. هل اصطحبت بعض الزائرين في جولة داخل المتحف أو أريتهم المعالم المميزة في مدينتك؟ حسناً، لقد تعلمت كيفية جذب انتباه الناس. هل كنت تعمل كنادل؟ عظيم، لقد أتقنت مهارة هائلة: وهي تولي أمر العملاء المرهقين. هل عملت كجليس أطفال؟ حسناً، لقد عززت لديك الشعور بالمسؤولية. بعبارة أخرى، هذه الوظائف التي تبدو بسيطة قد تكون من العناصر الأساسية لخبرتك في العمل.
جرّب أن تتناول أطعمة لا تعرف كيف تلفظ اسمها، أن تتعلم 50 كلمة من لغة أجنبية، أن تختلط بأشخاص خارج نطاق مجموعتك المعتادة، أن تتعلم قراءة النوتة الموسيقية، أن تحفظ الشعر، أن تضيع في مدينة لا تعرفها (نصيحتي: جرب مدينة البندقية)، أن تتطوع في مشروع لا تفهمه، أن تقرأ كتاباً لا تقرأه عادة، أن تطفئ التلفاز على الأقل خمسة أيام في الأسبوع، أن تستمع إلى موسيقى لا تستمع إليها عادة، أن تشاهد فيلم مع كتم الصوت محاولاً فهمه من خلال مراقبة لغة الجسد: بعبارة أخرى، جرّب أن تخرج من منطقة راحتك وأن تتجرّد من الطريقة التي تفكر فيها في العادة. ستجد أنك تتعلم بطريقة غامضة وساحرة.
القاعدة الثانية: الفشل هو جزء من النجاح، إذا تعلمنا منه
لدي مشكلة شديدة في تقبّل فكرة أنّ الفشل هو عكس النجاح. أؤمن بعكس ذلك، أؤمن أنّ أحد العناصر الأساسية للنجاح هو الفشل، شرط أن نتعلم منه. نحن نقوم بالعديد من تلك الإخفاقات الناجحة على مدار حياتنا، تلك التجارب التي قد تكون مؤذية في البداية ولكن في النهاية تعلمنا ألا نكرر نفس الأخطاء. أنت تتعلم من خلال ارتكاب هذه الأخطاء. كتب الفيلسوف الصيني كونفوشيوس: “أنا أسمع وأنسى. أرى وأتذكر. أفعل وأفهم”. يمكن الإضافة إلى هذه العبارة: “إذا كنت مخطئاً، لا أنسى، بل أتعلم وأتمكن أن أشرح ما تعلمته للآخرين”.
ورد في كتاب “قواعد العمل!” الذي ألّفه مدير الأعمال لاسزلو بوك رئيس عمليات الأفراد المبتكرة في شركة جوجل، أنّ الولايات المتحدة أنفقت 156 مليار دولار من أجل تدريب الموظفين في العام 2011، وهو مبلغ مخيف. لا أؤمن كثيراً بطرق التعلم التقليدية، تماماً مثل لاسزلو، التي تتألف من شخص يتكلم بينما يستمع الآخرون إليه ويدونون الملاحظات؛ تُعرف هذه الطريقة في نظام الشركات على أنها “الموت بسبب باور بوينت” أي شعور الموظفين بالملل القوي عند حضورهم جلسة لعرض تقديمي من خلال الباور بوينت.
ستتعلم أكثر بكثير من خلال محاولة القيام بشيء جديد، وعدم اعتبار الفشل على أنه نوع من الأمراض المميتة التي يجب تجنبها بأي ثمن، بل اعتباره خطوة صحية في عملية التعلم. وهذه بعض الأمثلة على ذلك.
هل تعرف من الذي أخفق في تسجيل 12,345 هدف في مسيرته الرياضية كلاعب كرة السلة؟ إنّه مايكل جوردان نفسه الذي سجل 12,192 هدف “فقط”، والذي يعتبر كأعظم لاعب كرة سلة على الإطلاق. أنشأ توماس أديسون حوالي 10,000 نموذج أولي لمصباحه الكهربائي قبل أن ينجح.
أما في مجال الأعمال، هل تعرف ما هو الشيء المشترك بين ريتشارد برانسون وبيل غيتس ومارك زوكربيرغ؟ جميعهم فشلوا عدة مرات قبل أن ينجحوا في تحقيق ما سعوا إليه.
كتب هنري فورد أنّ الفشل هو أفضل فرصة للبدء مرة أخرى بما قمت به، وبطريقة أكثر ذكاء. إذا كنا لا نخطئ أبداً، فإننا لم نتعلم أي شيء جوهري. إنّ التعلم يعني أن نخرج حقاً من منطقة راحتنا؛ يمكن أن يعني في بعض الحالات المعاناة قبل أن تتغير أفكارنا. يوهانس هوشوفر هو أستاذ علم النفس وعلم الأعصاب في جامعة برينستون. نشر نسخة عن سيرته الذاتية على تويتر تتشكل من قائمة طويلة مليئة بالإخفاقات، موضحاً أنّ الفشل هو جزء من تجربة التعلم لدينا، وليس شيئا علينا إخفاؤه. إذا أردت كتابة قائمة إخفاقاتي الخاصة، ستتألف هذه القائمة من 30 صفحة على الأقل. ومع تقدم مسيرتي المهنية، تصبح قائمة إخفاقاتي مثيرة للإعجاب حقاً. إذاً، لقد قمت باختراع بعض الأحكام والتعريفات لنفسي. لقد قمت بمجموعة إخفاقات ناجحة، وتعلمت الكثير منها.
القاعدة الثالثة: التعلم لا يتوقف أبداً
أنت لا تتوقف أبداً عن التعلم. أنهت إنغبورغ رابوبورت كتابة أطروحتها في الطب في العام 1938، وكانت على وشك أن تصبح طبيبة، ولكن بسبب القوانين العنصرية البغيضة التي أقرها النظام النازي، تم رفض تأهلها بسبب معتقدها الديني (كانت من أصل يهودي). هاجرت إلى الولايات المتحدة حيث تابعت دراستها في الطب. عملت في العديد من المستشفيات كطبيبة أطفال وطبيبة لحديثي الولادة، وذلك قبل أن تعود إلى ألمانيا الشرقية في الخمسينيات من عمرها، حيث أسست في برلين الشرقية أول عيادة طبية للأطفال حديثي الولادة. في العام 2015، قررت جامعة هامبورغ تصحيح الظلم الذي اقترفته بحقها. وبعد 77 عاماً، ناقشت أطروحتها التي كتبتها في العام 1938، وحصلت على شهادتها حين كان عمرها 102 عام. أصبحت بسبب التزامها بالتعلم ومكافحة الظلم واحدة من الأبطال بالنسبة لي. لذا: تحول إلى آلة تعليمية، استمتع بالفشل الناجح ولا تتوقف عن التعلم حتى عندما يصبح عمرك 102 عام.
دعنا نبتكر المستقبل من خلال استثمار تعلمنا. ستكون هذه الخطوة (في معظم الأوقات) رحلة سعيدة نحو الحرية، فلا يستطيع أحد أن ينتزع منا ما تعلمناه ولا أن يستولي على خياراتنا.